فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ}
استئناف بيانيّ لأنّ سوق القصّة يستدعي تساؤل السامع عمّا جَرَى بعد إشارة أخيهم عليهم، وهل رجعوا عمّا بيتوا وصمّموا على ما أشار به أخوهم.
وابتداء الكلام مع أبيهم بقولهم: {يا أبانا} يقضي أنّ تلك عادتهم في خطاب الابن أباه.
ولعل يعقوب عليه السّلام كان لا يأذن ليوسف عليه السّلام بالخروج مع إخوته للرعي أو للسّبق خوفًا عليه من أن يصيبه سوء من كيدهم أو من غيرهم، ولم يكن يصرّح لهم بأنّه لا يأمنهم عليه ولكن حاله في منعه من الخروج كحال من لا يأمنهم عليه فنزّلوه منزلة من لا يأمنهم، وأتوا بالاستفهام المستعمل في الإنكار على نفي الائتمان.
وفي التّوراة أن يعقوب عليه السّلام أرسله إلى إخوته وكانوا قد خرجوا يرعون، وإذا لم يكن تحريفًا فلعلّ يعقوب عليه السّلام بعد أن امتنع من خروج يوسف عليه السّلام معهم سمح له بذلك، أو بعد أن سمع لومهم عليه سمح له بذلك.
وتركيب: {ما لك} لا تفعل.
تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى: {فما لكم كيف تحكمون} في سورة يونس (35)، وانظر قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا مَا لَكمْ إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثّاقلتم إلى الأرض} في سورة بَراءة (38).
وقوله: {فما لكم في المنافقين فئتين} في سورة النساء (88).
واتفق القرّاء على قراءة: {لا تأمنّا} بنون مشددة مدغمة من نون أمن ونون جماعة المتكلّمين، وهي مرسومة في المصحف بنون واحدة.
واختفلوا في كيفية النطق بهذه النون بين إدغام محض، وإدغام بإشمام، وإخفاء بلا إدغام، وهذا الوجه الأخير مرجوح، وأرجح الوجهين الآخرين الإدغام بإشمام، وهما طريقتان للكل وليسا مذهبين.
وحرف: {على} التي يتعدّى بها فعل الأمن المنفي للاستعلاء المجازي بمعنى التمكّن من تعلّق الائتمان بمدخول: {على}.
والنّصح عمل أو قول فيه نفع للمنصوح، وفعله يتعدّى باللاّم غالبًا وبنفسه.
وتقدّم في قوله تعالى: {أبلّغكم رسالات ربّي وأنصح لكم} في سورة الأعراف (62).
وجملة: {وإنّا له لناصحون} معترضة بين جملتي: {ما لك لا تأمنّا} وجملة: {أرسله}.
والمعنى هنا: أنهم يعملون ما فيه نفع ليوسف عليه السّلام.
وجملة: {أرسله} مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لأن الإنكار المتقدّم يثير ترقب يعقوب عليه السّلام لمعرفة ما يريدون منه ليوسف عليه السّلام.
و{يرتَع} قرأه نافع، وأبو جعفر، ويعقوب بياء الغائب وكسر العَين.
وقرأه ابن كثير بنون المتكلّم المشارك وكسر العين وهو على قراءتي هؤلاء الأربعة مضارع ارتعَى وهو افتعال من الرّعي للمبالغة فيه.
فهو حقيقة في أكل المواشي والبهائم واستعير في كلامهم للأكل الكثير لأنّ الناس إذا خرجوا إلى الرّياض والأرياف للّعب والسّبق تقوى شهوة الأكل فيهم فيأكلون أكلًا ذريعًا فلذلك شبّه أكلهم بأكل الأنعام.
وإنّما ذكروا ذلك لأنّه يسرّ أباهم أن يكونوا فرحين.
وقرأه أبو عمرو، وابن عامر بنون وسكون العين.
وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف بياء الغائب وسكون العين وهو على قراءتي هؤلاء الستة مضارع رتَع إذا أقام في خصب وسعة من الطعام.
والتحقيق أنّ هذا مستعار من رتعت الدّابة إذا أكلت في المرعى حتّى شبعت.
فمفاد المعنى على التأويلين واحد.
واللّعب: فعل أو كلام لا يراد منه ما شأنه أن يراد بمثله نحو الجري والقفز والسّبق والمراماة، نحو قول امرئ القيس:
فظلّ العذارى يرتمين بشحمها

يقصد منه الاستجمام ودفع السآمة.
وهو مباح في الشرائع كلّها إذا لم يصر دأبًا.
فلا وجه لتساؤل صاحب الكشاف على استجازة يعقوب عليه السّلام لهم اللعب.
والذين قرأوا: {نرتع} بنون المشاركة قرأوا: {ونلعب} بالنون أيضًا.
وجملة: {وإنّا له لحافظون} في موضع الحال مثل: {وإنّا له لناصحون} [سورة يوسف: 10].
والتّأكيد فيهما للتّحقيق تنزيلًا لأبيهم منزلة الشّاك في أنّهم يحفظونه وينصحونه كما نزّلوه منزلة من لا يأمنهم عليه من حيث إنّه كان لا يأذن له بالخروج معهم للرعي ونحوه.
وتقديم له في: {له لناصحون} و: {له لحافظون} يجوز أن يكون لأجل الرعاية للفاصلة والاهتمام بشأن يوسف عليه السّلام في ظاهر الأمر، ويجوز أن يكون للقصر الادّعائي؛ جعلوا أنفسهم لفرط عنايتهم به بمنزلة من لا يحفظ غيره ولا ينصح غيره.
وفي هذا القول الذي تواطأوا عليه عند أبيهم عبرة من تواطئ أهل الغرض الواحد على التحيّل لنصب الأحابيل لتحصيل غرض دنيء، وكيف ابتدأوا بالاستفهام عن عدم أمنه إيّاهم على أخيهم وإظهار أنّهم نصحاء له، وحققوا ذلك بالجملة الاسمية وبحرف التوكيد، ثمّ أظهروا أنّهم ما حرصوا إلاّ على فائدة أخيهم وأنّهم حافظون له وأكّدوا ذلك أيضًا.
{قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ}.
فصل:
جملة: {قال} جار على طريقة المحاورة.
أظهر لهم سبب امتناعه من خروج يوسف عليه السّلام معهم إلى الرّيف بأنّه يحزنه لبعده عنه أيّامًا، وبأنّه يخشى عليه الذئاب، إذ كان يوسف عليه السّلام حينئذٍ غلامًا، وكان قد رُبّيَ في دَعَة فلم يكن مَرنًا بمقاومة الوحوش، والذئابُ تَجْتَرئ على الذي تحسّ منه ضعفًا في دفاعها.
قال الرّبيع بن ضبع الفزاري يشكو ضعف الشيخوخة:
والذّئب أخشاه إن مررت به ** وحدي وأخشى الرياح والمطرا

وقال الفرزدق يذكر ذئبًا:
فقلت له لمّا تكشّر ضاحكًا ** وقائم سيفي من يدي بمكان

تعش فإن عاهدتني لا تخونني ** نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

فذئاب بادية الشّام كانت أشدّ خبثًا من بقية الذئاب، ولعلّها كانت كذئاب بلاد الرُّوس.
والعرب يقولون: إنّ الذئب إذا حورب ودافع عن نفسه حتّى عضّ الإنسان وأسال دمه أنّه يضرى حين يرى الدمّ فيستأسد على الإنسان، قال:
فكنت كذئب السّوء حين رأى دمًا ** بصاحبه يومًا أحال على الدم

وقد يتجمّع سرب من الذئاب فتكون أشدّ خطرًا على الواحد من الناس والصغير.
والتعريف في: {الذئب} تعريف الحقيقة والطبيعة، ويسمّى تعريف الجنس.
وهو هنا مراد به غير معيّن من نوع الذئب أو جماعة منه، وليس الحكم على الجنس بقرينة أن الأكل من أحوال الذّوات لا من أحوال الجنس، لكن المراد أية ذات من هذا الجنس دون تعيين.
ونظيره قوله تعالى: {كمثل الحمار يحمل أسفارًا} [سورة الجمعة: 5] أي فرد من الحمير غير معيّن، وقرينة إرادة الفرد دون الجنس إسناد حمل الأسفار إليه لأنّ الجنس لا يحمل.
ومنه قولهم: (ادخل السوق) إذا أردت فردًا من الأسواق غير معين، وقولك: ادخل، قرينة على ما ذكر.
وهذا التّعريف شبيه بالنّكرة في المعنى إلاّ أنّه مراد به فرد من الجنس.
وقريب من هذا التّعريف باللاّم التعريف بعلم الجنس، والفرق بين هذه اللام وبين المنكّر كالفرق بين علم الجنس والنكرة.
فالمعنى: أخاف أن يأكله الذّئب، أي يَقتله فيأكل منه فإنّكم تبعدون عنه، لمَا يعلم من إمعانهم في اللّعب والشّغل باللهو والمسابقة، فتجتري الذئاب على يوسف عليه السّلام.
والذئب: حيوان من الفصيلة الكلبيّة، وهو كلب بَرّي وحشيّ.
من خلقه الاحتيال والنفورُ.
وهو يفترس الغنم.
وإذا قاتل الإنسان فجرحه ورأى عليه الدم ضرى به فربّما مزّقه.
وإنّما ذكر يعقوب عليه السّلام أنّ ذهابهم به غَدا يحدث به حزنًا مستقبلًا ليصرفهم عن الإلحاح في طلب الخروج به لأنّ شأن الابن البار أن يتّقي ما يحزن أباه.
وتأكيد الجملة بحرف التّأكيد لقطع إلحاحهم بتحقيق أنّ حزنه لفراقه ثابت، تنزيلًا لهم منزلة من ينكر ذلك، إذْ رأى إلحاحهم.
ويسري التّأكيد إلى جملة {وأخاف أن يأكله الذئب}.
فأبوا إلاّ المراجعة قالوا: {لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنّا إذن لخاسرون}.
واللاّم في: {لئِن أكله} موطّئة للقسم، أرادوا تأكيد الجواب باللاّم.
وإنّ ولام الابتداء وإذن الجوابيّة تحقيقًا لحصول خسرانهم على تقدير حصول الشّرط.
والمراد: الكناية عن عدم تفريطهم فيه وعن حفظهم إيّاه لأنّ المرء لا يرضى أن يوصف بالخسران.
والمراد بالخسران: انتفاء النفع المرجوّ من الرّجال، استعاروا له انتفاء نفع التاجر من تجره، وهو خيبة مذمومة، أي إنّا إذن لمسلوبون من صفات الفتوة من قوة ومقدرة ويقظة.
فكونهم عصبة يحول دون تواطيهم على ما يوجب الخسران لِجميعهم.
وتقدم معنى العصبة آنفًا، وفي هذا عبرة مِن مقدار إظهار الصّلاح مع استبطان الضرّ والإهلاك.
وقرأ الجمهور بتحقيق همزة: {الذئب} على الأصل.
وقرأه ورش عن نافع، والسوسي عن أبي عمرو، والكسائيّ بتخفيف الهمزة ياء.
وفي بعض التفاسير نسب تخفيف الهمزة إلى خلف، وأبي جعفر، وذلك لا يعرف في كتب القراءات.
وفي البيضاوي أنّ أبا عَمرو أظهر الهمزة في التوقّف، وأنّ حمزة أظهرها في الوصل.
{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ}
تفريع حكاية الذّهاب به والعزم على إلقائه في الجبّ على حكاية المحاورة بين يعقوب عليه السّلام وبنيه في محاولة الخروج بيوسف عليه السّلام إلى البادية يؤذن بجمل محذوفة فيها ذكر أنهم ألحوا على يعقوب عليه السّلام حتّى أقنعوه فأذن ليوسف عليه السّلام بالخروج معهم، وهو إيجاز.
والمعنى: فلمّا أجابهم يعقوب عليه السّلام إلى ما طلبوا ذهبوا به وبلغوا المكان الذي فيه الجب.
وفعل (أجمع) يتعدّى إلى المفعول بنفسه.
ومعناه: صمّم على الفعل، فقوله: {أن يجعلوه} هو مفعول: {وأجمعوا}.
وجواب {لمّا} محذوف دلّ عليه: {أن يجعلوه في غيابت الجب}، والتقدير: جعلوه في الجب.
ومثله كثير في القرآن.
وهو من الإيجاز الخاص بالقرآن فهو تقليل في اللّفظ لظهور المعنى.
وجملة: {وأوحينا إليه} معطوفة على جملة: {وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب}، لأنّ هذا الموحى من مهمّ عبر القصة.
وقيل: الواو مزيدة وجملة: {أوحينا} هو جواب {لمّا}، وقد قيل بمثل ذلك في قوله امرئ القيس:
فلمّا أجزنا ساحة الحي وانتحى

البيت.
وقيل به في قوله تعالى: {فلمّا أسلما وتلّه للجبين وناديناه أنْ يا إبراهيم} [سورة الصافات: 103، 104] الآية وفي جميع ذلك نظر.
والضمير في قوله: {إليه} عائد إلى يوسف عليه السّلام في قول أكثر المفسّرين مقتصرين عليه.
وذكر ابن عطية أنّه قيل الضمير عائد إلى يعقوب عليه السّلام.
وجملة: {لتنبئنهم بأمرهم هذا} بيان لِجلمة: {أوحينا}.
وأكّدت باللاّم ونون التوكيد لتحقيق مضمونها سواء كان المراد منها الإخبار عن المستقبل أو الأمر في الحال.
فعلى الأوّل فهذا الوحي يحتمل أن يكون إلهامًا ألقاه الله في نفس يوسف عليه السّلام حين كيدهم له، ويحتمل أنّه وحي بواسطة المَلك فيكون إرهاصًا ليوسف عليه السّلام قبل النّبوءة رحمة من الله ليزيل عنه كربه، فأعلمه بما يدل على أن الله سيخلصه من هذه المصيبة وتكون له العاقبة على الذين كادوا له، وإيذان بأنّه سيؤانسه في وحشة الجب بالوحي والبشارة، وبأنه سينبئ في المستقبل إخوته بما فعلوه معه كما تؤذن به نون التوكيد إذا اقترنت بالجملة الخبرية، وذلك يستلزم نجاته وتمكّنه من إخوته لأن الإنباء بذلك لا يكون إلا في حال تمكّن منهم وأمن من شرهم.
ومعنى: {بأمرهم}: بفعلهم العظيم في الإساءة.
وجملة: {وهم لا يشعرون} في موضع الحال، أي لتخبرنهم بما فعلوا بك وهم لا يشعرون أنك أخوهم بل في حالة يحسبونه مطلعًا على المغيبات متكهنًا بها، وذلك إخبار بما وقع بعد سنين مما حكي في هذه السورة بقوله تعالى: {قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه} [سورة يوسف: 89] الآيتين.
وعلى احتمال عود ضمير {إليه} على يعقوب عليه السّلام فالوحي هو إلقاء الله إليه ذلك بواسطة المَلَك، والواو أظهر في العطف حينئذٍ فهو معطوف على جملة: {فلما ذهبوا به} إلى آخرها: {وأوحينا إليه} قبل ذلك.
و{لتنبئنهم} أمر، أي أوحينا إليه نَبّئْهم بأمرهم هذا، أي أشعرهم بما كادوا ليوسف عليه السّلام، إشعارًا بالتعريض، وذلك في قوله: {وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون} [سورة يوسف: 13].
وجملة {وهم لا يشعرون} على هذا التقدير حال من ضمير جمع الغائبين، أي وهم لا يشعرون أننا أوحينا إليه بذلك.
وهذا الجب الذي ألقي فيه يوسف عليه السّلام وقع في التوراة أنه في أرض (دوثان)، ودوثان كانت مدينة حصينة وصارت خرابا.
والمراد: أنه كانت حوله صحراء هي مرعى ومربع.
ووصف الجب يقتضي أنه على طريق القوافل.
واتّفق واصفو الجب على أنه بين (بانياس) و (طبرية).
وأنه على اثني عشر ميلًا من طبرية ممّا يلي دمشق، وأنه قرب قرية يقال لها (سنجل أو سنجيل).
قال قدامة: هي طريق البريد بين بعلبك وطبرية.
ووصفها المتأخرون بالضبط المأخوذ من الأوصاف التاريخية القديمة أنه الطريق الكبرى بين الشام ومصر.
وكانت تجتاز الأردن تحت بحيرة طبرية وتمر على (دوثان) وكانت تسلكها قوافل العرب التي تحمل الأطياب إلى المشرق، وفي هذه الطريق جباب كثيرة في (دوثان).
وجب يوسف معروف بين طبرية وصفد، بنيت عليه قبة في زمن الدولة الأيوبية بحسب التوسّم وهي قائمة إلى الآن. اهـ.